
التعليم في لبنان… نزيفٌ سنوي واستباحة بلا رقيب
التعليم في لبنان… نزيفٌ سنوي واستباحة بلا رقيب
مع بداية كل عام دراسي، يتكرّر المشهد ذاته: آلاف العائلات اللبنانية تدخل في دوّامة عجز مالي وقلق متصاعد. فالتعليم، الذي يُفترض أن يكون حقًا بديهيًا ومجانيًا أو على الأقل ميسورًا، تحوّل في لبنان إلى مشروع استثماري شرس، تُديره غالبية إدارات المدارس الخاصة بمنطق “التجارة المربحة”، لا بمنطق الرسالة التربوية.
الأقساط قفزت هذا العام إلى مستويات صادمة، بعضها ارتفع بين ٥٠٠ و١٠٠٠ دولار إضافي، لتصل الفاتورة السنوية إلى أرقام خيالية تتجاوز قدرة معظم الموظفين الذين لا تتخطى رواتبهم بضع مئات من الدولارات. أما لوائح الكتب والقرطاسية، فقد باتت بمثابة “فواتير استشفاء” تُضاف إلى النزيف المستمر: أسعار تتخطى المئات من الدولارات للطالب الواحد، ودفاتر وحقائب ومستلزمات تُباع بأسعار تفوق المنطق، تتفاوت بين مكتبة وأخرى في غياب تام لأي مرجعية أو تسعيرة رسمية.
الزي المدرسي بدوره لم يعد وسيلة للمساواة بين التلامذة، بل أصبح بابًا إضافيًا للاستنزاف. ملابس موحّدة تُفرض حصريًا من المدرسة بأسعار باهظة، وكأن الهدف الحقيقي لم يعد ترسيخ الانتماء بل تعزيز الأرباح.
الأخطر من كل ذلك هو غياب الشفافية: مدارس تُعلن أسعارًا دقيقة لا يجرؤ أحد على مناقشتها، وأخرى تترك الأهالي في عتمة “المفاجأة عند الدفع”، فيما تتلطّى إدارات خلف عبارات مطاطية مثل “الأسعار مدروسة”. أي دراسة هذه حين يصبح الكتاب سلعة نخبوية والدفتر رفاهية لا يقدر عليها سوى الميسورون؟
إن ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو جريمة متواصلة بحق مجتمع بأسره. التعليم تحوّل إلى امتياز طبقي: طفل يرتدي زيه الجديد ويحمل حقيبته الأنيقة ومصروفه المريح، وآخر بالكاد يملك قلمًا ودفترًا، وربما يدخل الصف جائعًا. هكذا تُختصر مأساة جيل كامل، جيل يُفترض أن يكون عماد المستقبل.
المسؤولية هنا لا تقع على الأهالي المنهَكين، بل على إدارات المدارس الخاصة أولًا، وعلى وزارة التربية ثانيًا. أين الرقابة؟ أين السياسات التي تضع حدًّا لهذا الاستنزاف الممنهج؟ لماذا تُترك العائلات فريسة بين أنياب المؤسسات التعليمية والتجار، فيما الدولة غائبة أو متواطئة؟
لقد آن الأوان لكسر هذا المسار الخطير. التعليم ليس سلعة في “بورصة الأرباح”، بل حق إنساني وأساس بناء الوطن. وما لم تُفرَض الشفافية والعدالة في التسعير، وما لم تتحمل الدولة مسؤوليتها في كبح جشع المؤسسات التعليمية، سيبقى العام الدراسي في لبنان موسم إذلال وإفقار، بدل أن يكون موسم أمل وانطلاقة جديدة.
ختامًا، أيُّ مدرسةٍ ستبقي أبوابها مفتوحةً إذا غابت العدالة والشفافية، وأصبح التلميذ رهينة الأسعار الخيالية والأقساط المفروضة؟ إن التعليم بلا أهل وتلامذة، بلا قدرة على الوصول إليه، لن يبقى سوى صرح فارغ… والرسالة التربوية الحقيقية ستختفي خلف جدران من الأرباح والجشع. الوقت حان لتتحمل المدارس مسؤوليتها، ولتوقف وزارة التربية هذا العبث قبل فوات الأوان.
أسعد نمّور