
خمس سنواتٍ مرّت… صورهم ما زالت على الحيطان ودماؤهم ما زالت على الأرض
خمس سنواتٍ مرّت... صورهم ما زالت على الحيطان ودماؤهم ما زالت على الأرض!
في الرابع من آب، من عام ٢٠٢٠، عند الساعة السادسة وسبع دقائق مساءً، تغيّر وجه بيروت إلى الأبد. انفجر قلبها، واحترق نبضها، وتناثرت روحها في الهواء. لم يكن مجرد تفجير، بل كان نهاية كل شيء: الأمل، الثقة، الطمأنينة، وحتى الحلم.
في اليوم التالي، خرج رئيس الجمهورية أمام عدسات الكاميرات، ونظر إلى عيون الناس الدامعة، وقال: “فيفي غضون خمسة أيام سيصدر تقرير عن لجنة تحقيقٍ أُسست بعد الانفجار لتوضيح اسباب الكارثة والبدء باتخاذ القرارات اللازمة”. يومها، تمسّكنا بكلامه كما يتمسّك الغريق بخشبة. قلنا لأنفسنا إن العدالة قادمة، إن الحقيقة ستُقال، إن الدولة – ولو لمرة – لن تخذلنا.
لكننا خُذِلنا.
مرّ يوم… ثم اثنان… ثم خمسة…
ثم خمسون… ثم مئة…
ثم خمس سنوات.
وما زلنا نعيش في اليوم السادس الذي لم يبدأ، لأن الخمسة أيام التي وُعدنا بها لم تنتهِ.
كأنّ الزمن توقّف هناك، عند اللحظة التي تكسّر فيها زجاج النوافذ، وتفتّتت فيها أجساد الأبرياء، وتجمّدت فيها قلوب الأمهات.
خمس سنوات مرّت، ولكن صوت الانفجار لا يزال يدوّي في صدورنا. لا زلنا نسمعه حين نُغمض أعيننا. لا زلنا نشمّ رائحة الدخان في صور بيروت. لا زلنا نرى الغبار يغمر الوجوه، والدم يلطّخ الأرصفة.
من ينسى تلك الليلة؟
من ينسى الوجوه المذعورة؟
من ينسى جثث الأطفال؟
من ينسى ركض الأهل بين الردم؟
من ينسى الأمهات وهنّ يصرخن على أبواب المستشفيات: “وين ابني؟!”
من ينسى رالف؟
رالف الذي كان حلمًا يمشي، وضحكةً تعلو، واختفى في لحظة.
من ينسى ألكسندرا؟
وجو، وميشال، وسحر، وعمران…
كلهم صاروا أسماء على لافتات، وصورًا على جدران مهترئة، وأحلامًا منسية في دولة بلا ذاكرة.
أيّ وطنٍ هذا الذي يدفن أبناءه ثم لا يسأل عنهم؟
أيّ سلطةٍ هذه التي تُلقي الوعد، ثم تهرب؟
أيّ عدالةٍ هذه التي تخاف من الحقيقة؟
خمس سنوات مرّت، ولم يُحاسب أحد.
ولا حتى سُئل أحد.
ولا حتى خجل أحد.
المسؤولون ينامون ليلًا مطمئنين، ويخطبون نهارًا عن الكرامة والسيادة والشرف. لكن أيّ شرف هذا في الصمت عن مجزرة؟ أيّ كرامة في دفن الحقيقة؟ أيّ سيادة تُبنى على جماجم الأطفال؟
أهل الضحايا لم ينسوا.
ولن ينسوا.
هم لم يدفنوا أبناءهم… بل حملوهم معهم.
كل يوم، كل لحظة، كل ذكرى.
في كل سنة، يعودون إلى المرفأ، إلى الركام، إلى المكان الذي تغيّرت فيه حياتهم إلى الأبد. يرفعون صور أولادهم، يقفون بالسواد، يصرخون في وجه اللاعدالة، ويمسحون دمعةً لم تجف منذ خمس سنوات.
بيروت اليوم مدينة خرساء.
تضحك بالواجهة، وتبكي في قلبها.
تخجل من نفسها حين تتذكّر أبناءها الذين ماتوا على أرصفتها ولم تنتصر لهم.
تعيش كأنها لم تُذبَح، لكنها تنزف كل يوم.
خمس سنوات مرّت…
لكننا ما زلنا هناك،
نحمل الحداد في أرواحنا،
ونُبقي شمعةً صغيرة للعدالة، لعلها تجد طريقها يومًا.
الخمسة أيام لم تنتهِ،
ولن تنتهي…
حتى نعرف من قتل رالف.
ومن قتل ألكسندرا.
ومن قتل بيروت.
أسعد نمور