الأقساط تُكوي الجيوب… التعليم الخاص في لبنان بين ارتفاع التكلفة ووعد “دعم المعلّم

الأقساط تُكوي الجيوب... التعليم الخاص في لبنان بين ارتفاع التكلفة ووعد "دعم المعلّم

انطلق العام الدراسي في لبنان هذا الموسم وسط توتّر وقلق واسعين؛ الأقساط المدرسية ارتفعت بنسب كبيرة في عدد من المدارس الخاصة، ما وضع آلاف العائلات أمام معضلة مالية حقيقية. إدارة بعض المدارس تبرّر هذه الزيادات بأنها “لازمة لتحسين رواتب المعلّمين” أو لتغطية تكاليف التشغيل والتجهيزات، لكن المعطيات الميدانية تشير إلى أن الأثر الحقيقي على رواتب المعلمين محدود في كثير من الحالات.

ما الذي تغيّر؟ عوامل اقتصادية وواقعية

أهم الأسباب التي أدّت إلى رفع الأقساط الآن هي مزيج من عوامل داخلية وخارجية:

• تدهور سعر الصرف والتضخّم: المدارس تعتمد في كثير من بنود ميزانيتها على واردات أو على ماديات متأثرة بتحويلات بالدولار (كتب، معدات تقنية، قطع تبديل، مولّدات)، فارتفاع سعر الصرف زاد الأعباء التشغيلية.
• ارتفاع كلفة التشغيل (كهرباء ـ مولّدات ـ صيانة): انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار المولدات والصيانة جعلت المصاريف ثابتة أو متزايدة بغض النظر عن تسجيل الأقساط.
• تعهّدات “خدمات جديدة”: مدارس تعلن عن تطوير مناهج رقمية أو مختبرات أو منصات تعليم عن بُعد، وتستخدم ذلك لتبرير زيادة الأقساط، لكن التنفيذ لا يتناسب دوماً مع المبلغ الذي يُحصّل.
• غياب رقابة فعّالة وتمثيل أهالي قويّ: عندما لا تكون هناك شفافية أو لجان أهل فاعلة، تصبح الزيادة سهلة ولا تُعرّض الإدارات لأي مساءلة حقيقية.

كم بلغت الزيادات فعلاً؟

اتحاد بعض المدارس حاول احتواء الضربات بتحديد نسب مقترحة للزيادات (مثلاً ٢٠–٢٥%)، لكن تطبيق الواقع كان أقسى: تقارير إعلامية ذكرت حالات تجاوزت هذه النسب ووصلت إلى زيادات تقارب ٥٠% أو حتى ١٠٠–١٢٠% في بعض الحالات، خاصة في مدارس تطلب تغطية “عاجلة” لتكاليف العام. كما نُشرت تحذيرات عن موجات ارتفاع قد تصل حتى ٥٠% أو أكثر بحسب جهات تعليمية. هذه التفاوتات توضّح غياب معايير ثابتة وتباين كبير بين المدارس.

ماذا عن المعلمين؟ بين وعود الزيادة وواقع الرواتب

نقيب المعلّمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض يؤكد أن قلة فقط من إدارات المدارس رفعت فعلاً الرواتب، وأن غالبية الرواتب لا تزال “تلامس ٥٠% فقط من قيمتها قبل الأزمة” أي أن الراتب الحقيقي للمعلم ما زال متآكلاً بالنسبة لتكاليف المعيشة المعاصرة. لذلك القول إن الأقساط تُرفع “لصالح المعلّم” ليس دقيقًا في معظم الحالات.

الأرقام الكبيرة: تأثير النزاع والأزمة على التعليم

الصدمات الأمنية والنزوح والدمار الذي رافق التصعيد في ٢٠٢٤–٢٠٢٥ عمّق أزمة التعليم: تقارير دولية ومنظمات إنسانية تتحدث عن مئات الآلاف من الأطفال خارج المدرسة وتأخّر في فتح المدارس العامة في بعض المناطق، ما يزيد الضغوط على المنظومة التعليمية بكاملها. تقديرات وتقارير رسمية وغير حكومية تشير إلى أرقام متراوحة (من ٤٠٠ ألف إلى ٧٠٠ ألف طفل متأثرين أو خارج حلقات التعليم في فترات ذروة النزوح)، وهو أثر لا يختزل بمسألة الأقساط بل يلامس بنية النظام التعليمي بأكمله.

حالات ومشاهد ميدانية

• مدارس تجاوزت سقف الزيادة المعلن: تقارير اقتصادية وإعلامية وثّقت أن بعض المدارس تخطّت سقف الزيادة المتفق عليه محليًا، ما دفع أولياء أمور للاعتراض وتنظيم لقاءات ومجموعات ضغط محلية.
• مدارس أعلنت تطوير “خدمات رقمية” لكنها لم تطبقها بالكامل: شكاوى أولياء الأمور تكررت حول وعود التكنولوجيا أو المختبرات التي لم تُترجم إلى نتائج ملموسة مع رفع الأقساط.

أثر ذلك على الأسر والطلبة

الأقساط المرتفعة تُضيف أعباء مباشرة: تكاليف نقل، كتب، زي مدرسي، رسوم امتحانات ودروس خصوصية ومع تآكل قدرة الأسر، تزداد حالات الانسحاب الجزئي أو الكلي للطلاب أو الانتقال إلى مدارس أقل كلفة (أو حتى الانقطاع عن التعليم في أسوأ السيناريوهات). هذا يقوّي حلقة الفقر التعليمي ويزيد الفجوة بين طبقات المجتمع.

اقتراحات عملية وقابلة للتنفيذ الآن

1. شفافية مالية فورية: مطالبة كل مدرسة بنشر قائمة مفصّلة توضح توزيع الأقساط (نسبة للرواتب، صيانة، تجهيزات، خدمات). لجان الأهالي تستطيع مطالبة المدارس بعرض ميزانياتها.
2. آلية تفاوض موحّدة: تأسيس تحالفات لجان أهالي محلية/إقليمية تفاوض بشكل موحد على أقساط عادلة أو خطط دفع مرنة.
3. نماذج دفع متدرِّجة: اعتماد نظام شرائح رسوم (sliding scale) بحسب دخل الأسرة، أو إعفاءات ومِنَح للأسر المحتاجة بدعم مؤسسات خيرية دولية أو محلية.
4. دعم مؤسسي للتعليم الرسمي: تعزيز المنح الحكومية أو الدعم الدولي لتقوية المدارس الرسمية (بنية تحتية، توظيف معلمين، برامج تعليمية) حتى تُصبح خيارًا منافسًا ويُخفّض الضغوط على الأسر.
5. إلزامات قانونية مؤقتة: حكومة مؤقتة أو وزارة التربية تصدر إرشادات مُلزمة بخصوص سقوف زيادة مقبولة ومحاسبة مالية في حال التجاوز الشديد مع توفير آليات استئناف للأهالي.
6. مبادرات إنسانية سريعة: منظمات دولية ومحلية جاهزة لتقديم دعم طارئ (قروض مدرسية، منح، دعم نقل وكتب) لتخفيف أثر موجة الزيادات على الأطفال الأكثر هشاشة.

من المسؤول عن “إنقاذ” حقّ التعليم؟

الأزمة الحالية ليست مسؤولية جهة واحدة: الإدارات المدرسية، الأهالي، النقابات، الحكومة، والمانحون الدوليون كلّهم طرف. الحل يبدأ بشفافية ومحاسبة حقيقية أن يُعرف أين تذهب أموال الأقساط، وأن تُسهم الزيادات فعلاً في تحسين ظروف المعلمين والتعليم، وإلا فستبقى الأقساط عبئًا يشتّت الأسر ويهزم مستقبل الأجيال.