main-banner

مفاجآت ثقافية وسياسية وطائفية و… أنثويّة في نتائج مباراة الخدمة المدنية

مفاجآت عدّة أظهرَتها نتائج المباراة الخاصة التي نظّمَها مجلس الخدمة المدنية لملء المراكز الشاغرة في السلك الديبلوماسي اللبناني والتي تتَّصف بالـ Selective، أي اختيار «أفضل الأفضل». إذ برهنَ المجلس رئيساً وأعضاء من خلال لجنة ضمَّت «النخبة» أنّ المعيار الوحيد الذي اعتُمِد في التقويم واختيار الفائزين كان الكفاءة العالية والتميّز الباهر لـ 44 فائزاً من أصل 960 متبارياً ومتبارية، فشكّلت النتائج مفاجأة على مختلف الأصعدة.

المفاجأة الأولى كانت أنثوية، إذ أثبتَت النتائج أنّ منظومة استبعاد المرأة من الواجهة السياسية ومن المراكز الحسّاسة في الدولة أصبحت من الماضي (إنْ لم نقل في إطار المعالجة)، بعدما فاز في المباراة 15 امرأة مقابل 29 شاباً، لكنّ البارز كان احتلال امرأة المرتبة الأولى بفارق 20 نقطة عن الفائز الثاني وهو شاب، خصوصاً أنّ تاريخ لبنان لم يشهَد في أيّ مباراة مماثلة أكثر من فوزٍ يتيم لامرأة قد «تزمط» وتنجح!

مفاجأة ثقافية

المفاجأة الثانية تمثّلت بفوز غير مسبوق لطلّاب الجامعة اللبنانية، خصوصاً كلّيات الحقوق والعلوم القانونية متقدّمين على طلّاب فازوا أيضاً في المباراة قادمين من جامعات خاصة لتُثبتَ الجامعة اللبنانية أنّ المناهج والدورات التي تتبعها تُوازي المناهج العالمية لا بل تقدّمَت في بعضها.

مفاجأة سياسية

أمّا المفاجأة السياسية الصادمة، فقد علمَت «الجمهورية» بأنّها تمثّلت في عدم امتثال اللجنة الفاحصة لتمنّيات و«توصيات» رجالات السياسة، ومنهم حكّام حاليّون، بالإضافة الى شخصيات نافذة في الدولة، بعدما تمنّعَت اللجنة بجميع أعضائها عن تلقّي اتّصالات العائلات السياسية النافذة التي شاركَ أبناؤها وأقاربها وأنسباؤها في المباراة طمعاً في بقاء الوظائف الرفيعة المستوى في الدولة والحقائب الديبلوماسية مع أبنائهم وفي بيوتاتهم.

مفاجأة طائفية

إلى ذلك، سُجّلت مفاجأة طائفية شكّلَت صدمةً للّذين يقولون إنّ هناك غياباً مسيحيّاً أو استبعاداً للمسيحيين في المراكز الشاغرة للفئة الأولى في الدولة وفي السِلك الديبلوماسي، إذ جاءت نتائج المباراة لتدحضَ مقولة «التهميش المسيحي» بعد فوز 25 مسيحياً مقابل 19 متبارياً مسلِماً، وأثبتت أنّ المشاركة المسيحية لم تكن مستهدَفة بعدما ضمنَت اللجنة الفاحصة لجميع المرشّحين نَيلَ حظوظهم بالتساوي، فلم يُستهدَف مسيحيٌّ في المباراة أو مسلِم، بل كانا متساويَين، والكفاءة كانت المعيار الأساس الذي اختيرَ على أساسه الفائزون.

مجريات المباراة

من المعروف أنّ المباراة الخاصة التي يُعِدّها مجلس الخدمة المدنية بعد موافقة مجلس الوزراء لملء مراكز شاغرة في السلك الديبلوماسي اللبناني، ومنذ الستّينات، هي من أصعب المباريات في المراكز الحسّاسة للدولة، إذ توازي بصعوبتها مباراة القضاء، أي معهد القضاء والسلك الديبلوماسي، ويحسب الطلّاب لها مليونَ حساب.

وتفترض هذه المباراة ألّا يتجاوز عمر المتباري والمتبارية 35 عاماً وأن تكونَ المتبارية عزباء، لأنّ القانون الإداريّ في مجلس الخدمة ما زال يشترط أن تكون الفتاة عزباء. مع الإشارة إلى أنّ وزير الخارجية جبران باسيل كان قد تقدّمَ بكتاب إلى مجلس الخدمة المدنية وإلى مجلس الوزراء مطالِباً بتعديل هذا النص ليتساوى الشاب والفتاة في الشروط وتُمنَح الفرصة للفتاة الكفوءة أمتزوجةً كانت أم عزباء، إلّا أنّ هذا التعديل يَلزمه التئام مجلس النواب.

مشاركة كثيفة

تقدّمَ إلى المباراة المؤلّفة من ثلاث مراحل 960 متبارياً، وقد اجتازوا المرحلة الأولى التي كانت عبارة عن مسابقة خطّية بالثقافة العامّة أجروها باللغة الأجنبية الإلزامية، الفرنسية أو الانكليزية، ومِن أصل 960 رسبَ 600 متبارٍ وبقيَ 295 أمّا الباقون فلم ينالوا فوقَ العشرة على عشرين، وأيّ مسابقة دون معدّل العشرة يُستثنى صاحبُها فوراً، عِلماً أنّ اللجنة لا تعلم مَن هو صاحب المسابقة الخطّية، لأنّ الأسماء تكون مختومة بأختام مجلس الخدمة والمراقبة.

الناجحون هم النخبة من ديبلوماسيّي المستقبل

المرحلة الثانية هي عبارة عن حوار ومناقشة لتبيان ثقافة المتباري بالمعلومات العامّة واختبار دقيق لقدرته في المحاورة وفي امتلاك اللغة الأجنبية، فيما ينتقل إلى المرحلة الثالثة المتباري الذي يأخذ فوقَ العشرة، وقد نجَح 120 متبارياً، أمّا الباقون فقد رسَبوا في المباراة.

وهؤلاء الـ 120 خضعوا لمباراة خطّية عبارة عن سبع مواد:

الأولى: دراسة ملفّ باللغة العربية.

الثانية: تتعلق بالنصوص والأنظمة بما فيها قانون الجنسية وقانون كتابة العدل وقانون الأحوال الشخصية وقيد وثائق الزواج والولادة والوفاة والطلاق.

الثالثة: قانون المحاسبة العمومية اللبنانية.

الرابعة: القانون الدولي العام.

الخامسة: القانون الإداري.

السادسة: القانون الدستوري.

السابعة: تاريخ العلاقات الدولية منذ العام 1919 حتى اليوم.

ونتيجة هذه المباراة تمَّ اختيار المتميّزين، فنجَح 44 من أصل 120.

التصفية

المرحلة الثالثة، أي التصفية، هي عبارة عن مقابلة شفهية تشكّل معياراً أساسياً للاختيار بين المتبارين الباقين، وليس لها برنامج محدَّد، إذ يمكن أن يُطرَح خلالها أيُّ سؤال لاختبار سرعة بديهة المتباري وشخصيته وديبلوماسيته، وقد لا تكون الإجابة مبنية على المعلومات التي تكدّسَت في رأسه من قانون أو تكنولوجيا… بل على عفوية معيّنة قد تنقِذه من موقف ما يتطلب إجابةً ذكيّة وسريعة، أو التهرّب من الإجابة أو الإجابة بذكاء ودهاء وحِنكة وبديبلوماسية مهذّبة وربّما طريفة.

وقد تكون الإجابة على بعض أسئلة اللجنة مستحيلة، عِلماً أنّ اللجنة تتقصّد ذلك لمعرفة مدى قدرة المتباري على الإجابة. وهنا يقول رئيس اللجنة الفاحصة السفير شربل وهبة إنّ المتباري قد يبدِع ويكون خَلاّقاً في هذه المواقف، وهذا ما تنتظره اللجنة وأعضاؤها وتترقّبه بشوقٍ لتختار الألمع الذي تنقِذه شخصيته وحضورُه وذكاؤه فترتفع علامتُه.

إستبعاد

أمّا شروط التقدّم إلى المباراة فقد استعرضَتها «الجمهورية» مع السفير وهبة، فأوضَح أنّ اللجنة تستبعِد المتلعثِم في حديثه والمتأتئ والمرتبك. ومن الشروط الأساسية أن يكون لديه إجازة في القانون أو العلوم السياسية أو علوم علاقات دولية أو إقتصاد أو تاريخ.

ما كُتِب قد كُتِب

وعن سَير العملية الخطّية والتصحيح، أوضَح وهبة أنّ المسابقات صُحّحت مرّتين، وحين اختلفَت العلامة بين المصحّح الأوّل والثاني بأكثر من علامتين عرِضت على رئيس اللجنة ليُصحّحَها مرّة ثالثة، كاشِفاً أنّ نحو 20 في المئة من المسابقات صُحِّحت 3 مرّات.

تتألف اللجنة الفاحصة من 14 عضواً بالإضافة إلى السفير وهبة، هم: 7 سفراء محلّيين ومتقاعدين، 4 قضاة، و4 دكاترة وأساتذة جامعة (طبيب نفسي، دكتور في الأدب الفرنسي، ودكتور في الأدب الإنكليزي).

ولفتَ وهبة إلى أنّ اللجنة لم تعرف مسبَقاً أسماء المتبارين قبل أن توقّع بجميع أعضائها على كلّ المسابقات بعد الانتهاء من تصحيحها. وفي الجلسة الأخيرة (أي في الـ Deliberation)، فتِحت الأسماء وعُرفت هوية المتبارين، وكان ما كُتِب قد كُتب والعلامة وحدَها هي مَن صنّفت الأوائل وحدّدَت الراسب والناجح.

ويمكننا القول إنّ الناجحين الـ 44 في المباراة هم النخبة من ديبلوماسيّي المستقبل. وقد نجَحوا جميعاً من دون علامات استلحاق، ولم يكن هناك تدوير للعلامات، بل نجحوا بكفاءاتهم وتميّزِهم، وجميعُهم عناصر تُغني السلك الديبلوماسي في المرحلة المقبلة.

السياسيّون والخيبة

في السياق، علمَت «الجمهورية» أنّ كثُراً مِن أبناء السياسيين الحاليّين وغيرهم من النافذين كانت خيبتُهم كبيرة، لأنّ أبناءَهم لم يتمكّنوا من تخَطّي المرحلة الثانية في المباراة. فيما ألمحَ رئيس اللجنة بديبلوماسية لبقة ومتوقّعة أنّه تمنّى مع جميع الأعضاء على أبناء العائلات الكبيرة والعريقة الذين شاركوا في المباراة ولم يحالفهم الحظ التعلّم مِن التجربة لينجحوا في المباراة المقبلة التي تتطلب 26 متبارياً والتي ستنظَّم أواخرَ الصيف.

مساواة في الفرانكوفونية – والأنغلوفونية

ليس من باب الصدفة، بل من باب الحظ والمساواة، أن تسفِرَ النتائج عن نجاح 22 متبارياً باللغة الفرنسية و22 باللغة الإنكليزية، فيما أكّد وهبة أنّ النتيجة المتعادلة فاجأت الجميع، ليحافظَ بها لبنان عن غير قصد على المساواة بين الـ Francophonie والـ Anglophonie.

وعن المفاجأة الطائفية، أكّد وهبة أنّها تدحض الأصوات التي تتحدّث عن تهميش المسيحيين واستبعادهم عن المراكز الحسّاسة في الدولة، مشيداً بدور رئيسة المجلس القاضية فاطمة الصايغ عويدات ورئيس إدارة المباريات أنطوان جبران اللذين ترَفّعا في تعاطيها مع اللجنة وأعضائها وتركا للّجنة الفاحصة الصلاحية الكاملة في سَير العملية الاختبارية.

التحضير للمباراة

تضع اللجنة الأسئلة بعد اجتماعها في السادسة من صباح يوم المباراة وتضع السؤال الفاحص في اليوم نفسِه منعاً للتشويش والتسريب، فيذهب كامل الأعضاء إلى مجلس الخدمة الخامسة صباحاً ويَجلسوا في القاعة متخَلّين عن هواتفِهم الخلوية ويتداولون في الأسئلة في ما بينهم حتى الاتّفاق على سؤال موحَّد.

والاتّفاق على سؤال قد يستغرق عادةً ساعة أو ساعتين من النقاش. هذا في المرحلة الأولى، أمّا التحضير للمرحلة الثانية، أي المقابلة، فيكون بحضور كامل أعضاء اللجنة ورئيسها ونائب الرئيس السفير رامز دمشقية، والنائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان العميد رائد شرف الدين وسفَراء متقاعدين وقضاة في مجلس شورى الدولة منهم القاضيان ميراي عفيف وأندريه صادر والدكتور نادر سراح باحث في الأدب العربي
ونخبة من المديرين العامّين في الدولة.

المرّة الأولى

الطلّاب الفائزون سيخضعون لدورة تأهيلية في معهد الإدارة، وهي تحصل للمرّة الأولى في تاريخ لبنان بطلب من وزير الخارجية الذي ارتأى أن تخصّص الوزارة سنةً دراسية كاملة لهؤلاء الطلّاب الـ 44، تكون عبارة عن دورة متكاملة عوضَ أن يخضعوا للتدريب في الخارجية، وبذلك يَخضعون لسَنة دراسية تدريبية في معهد الإدارة وسَنة في الخارجية TRAVAUX PRATIQUES وتطبيق، يتخلّلها دروات في لغات أجنبية بالإضافة إلى اللغات الفرنسية والإنكليزية، مثل الألمانية والبرتغالية والإسبانية والروسية والصينية، وعلى الفائز أن يختار بينها.

وسيتعلّم الفائزون أيضاً البروتوكول وأصولَه وإدارة الحسابات الماليّة في السفارات في الخارج، لكي لا يذهب القنصل جاهلاً في العمل الإداري والمالي، ويتعلم أيضاً تنظيمَ الوكالات في الخارج وتوثيقَ الزيجات والولادة وطريقة تسجيل اللبنانيين المتحدّرين من أصل لبناني، بالإضافة إلى طريقة صياغة التقارير والتخاطب مع الوزارات كافّةً، والتعاطي مع الديبلوماسيين الأجانب في بلد الاعتماد، ومِن الممكن إرسالهم بعدها إلى الخارج لفترة تجريبية مدّتُها شهر أو شهرين إلى دولة عربية أو أجنبية صديقة. فيكون للبنان بعدها مجموعة ديبلوماسيّين محترفين.

تعيين الفائزين رسميّاً

يُعيَّن الفائزون عبر مشروع مرسوم من المفترض أن يوقّع في أقرب وقت مروراً بمجلس الخدمة، وبعدها بمجلس الوزراء. والجدير ذكرُه أنّ المرسوم يحتاج لتوقيع جميع الوزراء في غياب رئيس الجمهورية، ولا يحتاج لجلسةٍ لمجلس الوزراء لأنّه مرسوم عاديّ، وفور توقيع المرسوم يُعتبَر هؤلاء الـ 44 فائزاً موظفين في السِلك الخارجي.

المثير في هذا التقرير أنّ لبنان على موعد مع مجموعة ديبلوماسيّين محترفين في السنة المقبلة. فيما يَبقى تحديد المباراة المقبلة في أواخر الصيف، لأنّ الرقم المطلوب للمراكز الشاغرة هو 70، وقد فازَ في المرحلة الأولى 44 من أصل 960 متبارياً، وتبقى الوزارة في حاجة إلى 26 آخرين. ومِن المتوقّع أن تكون قد أنجزَت كلَّ الاستعدادات للمباراة الجديدة أواخرَ الصيف.

المصدر: الجمهورية

logo

All Rights Reserved 2022 Loubnaniyoun

 | 
 |