main-banner

موطني! موطني!

نعود الى نقطة البداية, الى حيث انطلقنا في الصباح الباكر… تكادُ النفس تتأقلم مع  مشاهد نهارها المتكررة و تتحوّل الوجوه الشاحبة الى ذكريات تترسّخُ في لاوعي لا يملّ من تخزين الصور العابرة…  محطةُ القطار هي نفسها لا تتغيّرُ, حتى الركاب المتجمّعين على حافة السكة الحديدية أصبحت وجوههم أليفة…  و تلك المرأة الجميلة, المتكئة على درجاتها القديمة, انتهت من قراءة كتابها الأخير, باشرت تصفح كتاب جديد ولم أستطع تأمّل عينيها الجميلتين… انطلق القطار في الموعد المحدد,  تمركزت في مكاني المعتاد, وجهي الى النافذة و عيناي تراقبان جمال الطبيعة الأخّاذ…تسحرك المناظر الخلابة و هي  تزّين ضفافَ أنهر احتلّها البط…

“موطني! موطني! الشبابُ لن يكل, همّه أن يستقل..” أتمتمُ أنشودة ادمنت سماعها بصوت اليسا… فصاحبة الاحساس المرهف  تأبى الا أن تعيدك  الى وطنك, فتخطفك من دون استئذان… و ها أنت تعود طفلا تسابق الريح وتلعب في ربوع وطن ضائع…  وقد تتحول الى محارب مندفع, يواجه العدا و ينتصر…
“موطني! موطني!”… ألتفت لأرى رجلا مسنّا يجلس قربي ودموعه قد لامست وجنتيه… ظننته في حالة سكر فتجاهلته في البداية و أكملت سماع الأنشودة… ولكن سرعان ما بدأ   بغنائها بغصة كبيرة… استدركت الموقف, وسألته عن جذوره العربية و فهمت سبب الألم و الحزن في داخله… انه فلسطيني الأصل, لجأ منذ كان شابا الى فرنسا و لم يعد يوما الى وطنه… فبقيت هذه الأنشودة الرابط الوحيد مع وطنه… نظر الي و أضاف: ” حتى المعالم الجغرافية  تغيرت هناك,  لم يبقى شيئا على حاله, لكن وطني الجميل بقي دائما في داخلي, حملته طفلا يوم هربت منه, و اعتنيت به في غربتي حتى أصبح ابني عوضا عن أن يكون أبي, سمعت صراخه و بكاءه مرارا ولم أستطع  أن أساعده, ناره البعيدة حرقت أشجاني و لم تنطفئ…”

وصل القطار الى محطته النهائية… لبس المسنُّ معطفه الشتوي, عاونته حتى آخر الشارع, مشى وحيدا و اختفى في الظلام الداكن… مر الليل سريعا وعادت أشعة الشمس لتخترق نافذة غرفتي…
نعود الى نقطة البداية, فيا ترى ماذا يخبئ يومنا الجديد في جعبته من أسرار؟

بقلم مغترب لبناني

logo

All Rights Reserved 2022 Loubnaniyoun

 | 
 |