كتبت ميريام سلامة في “الجمهورية”: عندما يصبح الجسد أداةَ تواصلٍ، تُعبِّر الروح من خلاله عمّا يختلجها من أحاسيس، يعلو وجدان الإنسان ويرتقي ليلامس مراتب الحياة العليا. وعندما يجمد ذاك الجسد، تاركاً الروح تخاطب الوجود بنظرةِ عينين فقط، يعجز اللسان عن التعبير ويجفّ حبر الكتابة، فيسود الصمت المدوّي معرفةً، تشبّثاً بالحياة وأملاً في المستقبل.
الدكتور جميل زغيب، رجلٌ استطاع أن يحوّل مرضه قوّةً فكرية، تؤثّر في المجتمع وتشكّل قدوة لكل شخص قرّر الاستسلام في الحياة. مرضه هو من الأمراض الأخطر والأكثر بشاعة في العالم، لأنه يصيب حركة الجسم.
التصلّب الجانبي الضموري يُفقد حامله الحركة الكلية، فلا يتكلّم ولا يمشي ولا يحرّك إلّا عينيه فقط. ولكن على الرغم من شلله، لم يرضَ طبيب الأطفال د. زغيب أن يستسلم لمرضه، فثابر في الحياة وحقّق أحلامه ولا يزال. بواسطة عينيه فقط، كَتب 9 كتب عن تجربته، نظرته للحياة، مثابرته وأفكاره.
ولكن عندما تلمّس الواقع الثقافي في بلادنا، ورأى أنّ القراءة لم تعد هواية الشعوب، قرّر أن يوصِّل صوته في وثائقي مُصوَّر. عندئذٍ، التقى د. زغيب الإعلامية كارن بستاني التي لم تحقّق حلمه فقط، بل حاربت معه مرض الـALS مترئسةً جمعية ALS Lebanon، وهي الجمعية الأولى في العالم العربي التي تُعنى بمرض التصلب الجانبي الضموري، والتي أسّسها د. زغيب. حاملةً شعلة الإعلام ودوره البنّاء والتوعوي في المجتمع، أوصلت بستاني صوته في فيلمٍ وثائقي بعنوان «Jamil, a flying soul» من إخراج سليم الهبر ومن إنتاج قسم المرئي والمسموع في جامعة سيدة اللويزة.
وكان لـ«الجمهورية» فرصة لقاء بستاني، حيث سردت لنا قصّة د. جميل، كما يعرفه الجميع، وحلمه الذي حمله إليها كي تحقّق تمنياته، قائلةً إنّ «كثيرين تكلّموا عنه عام 2012 وعرضوا مقتطقات من حياته في وثائقي تلفزيوني، ولكن لم يُصوَّر وثائقي يُخبر قصّة حياته كلّها، وتفاصيل دقيقة من مسيرته لا يعرفها المجتمع اللبناني. لذلك، عام 2013 طلب منّي تحقيق حلمه».
يومها، قال لها: «كارن، سأطلعك على سرّ لا تعرفه عائلتي حتى، وهو حُلم أريدك أن تساعديني في تحقيقه. أريد أن أصوّر وثائقياً عن حياتي». كلماته هذه فاجأت بستاني التي لم تعِ لماذا انتقاها هي كي تحقّق حلمه، فقد تعرّفت إليه في توقيع كتابه الأول، وأصبحا صديقين منذ ذلك الحين. قال لها: «أنتِ يداي ورجلاي وأعرف مدى حبّك في تحقيق أحلام الآخرين، لذلك اخترتك كي تصوّري حياتي في وثائقي».
فبدأ العمل لإنجاح هذه الفكرة التي كتبتها بستاني، ولكن كان صعباً إيجاد التمويل اللازم، ولكن تقول بستاني: «عندما طلبت من جامعة اللويزة مساعدتي في هذه القضية، رُحّب بالفكرة وأنتجت الجامعة الوثائقي الذي أخرجه أحد قدامى تلامذتها وهو سليم الهبر».
عندما قرّر المخرج الهبر إخراج الوثائقي لم يكن يحقّق حلم د. جميل فقط، بل كان يحقّق حلمه أيضاً، فتقول بستاني إنه أفصح حينها عن حلمه «منذ الصغر في إخراج فيلم عن قصّة إنسانية مماثلة».
عند مشاهدة الوثائقي، تترك صالة السينما مذهولاً من إرادة شخصٍ حارب الموت جامداً، وتنهمر دموعك أَسَفاً على نفوسنا نحن الذين لم نعرف بعد كيف نصل إلى درجة المعرفة والوعي التي وصل إليها د. جميل. تسمع شهادات أفراد عائلته وأصدقائه المتسلّحين بإيمانهم وحبّهم، فتشعر بطاقةٍ إيجابية انعكست فرحاً ومحبّة. وعندما ترى زوجته التي لم ترضَ يوماً التخلّي عنه، تؤمن أن الحبّ أغلى من كلّ القيَم الإنسانية والتضحية هي البرهان الوحيد على استمرار الشعوب.
تقول بستاني «إنّ هذا الوثائقي غيّر حياة د. جميل وعائلته، فمنذ إصابته بالمرض، لم يتكلّم ابنه سيرج عن الموضوع، ولكن في الوثائقي أفصح عن كلّ ما يختلجه من ألم وأمل في المستقبل. وعندما عُرض الوثائقي للمرّة الأولى في جامعة سيدة اللويزة، تابع د. جميل الحدث من منزله عبر سكايب ولكن بعد العرض، قرّر أن يشارك في العرض الأول في السينما شخصياً، مُتحدِّياً كلّ آلامه والصعوبات التي تحول دون تمكّنه من المشاركة».
لم تكتفِ كارن بستاني بتصوير وثائقي عن د. جميل زغيب فقط، بل ما زالت مثابرة في قضيّتها التي أضحت قضّيتنا كلّنا، واضعةً نصب عينيها إيصال هذا الفيلم إلى المجتمع الدولي عبر ترشيح د. جميل وأعماله لجائزة نوبل. وهي تعمل حالياً على عرض الوثائقي في صالات السينما اللبنانية، والتلفزيونات وفي المدارس.
خرجنا من صالة عرض فيلم «جميل، روحٌ محلّقة» مردّدين في ذاكرتنا قول الفنان التشكيلي رافي توكاتليان في الوثائقي: «كلّ إنسان يتحرّك يمكن توقيفه، ولكن التفكير لا يتوقف مهما حاولنا حدّه». د. جميل زغيب لم يتوقّف عن التفكير عندما مُنع من الحركة، بل على العكس، حارب بعينيه فقط كي يوصل كلّ أفكاره ويخاطب المجتمع بكلّ مكوّناته، باعثاً رسالة أمل في حياةٍ لا بدّ أن تُشرق مهما خفت نورها.
