main-banner

جمهورية الذل

ما إن تطأ قدماك مطار بيروت حتى تعرف أن شيئاً أساسياً قد تغير، وخصوصاً إن كنت آتياً من أحد البلدان “المتقدمة”. هنا تبدأ مخالفات القانون من عتبة المطار، فالارشادات الملصقة التي يلتزمها المسافر في مطارات العالم أجمع تصبح هنا اختيارية. على سبيل المثال، يقف الآتي من الخليج أو من أميركا ولا يحمل جواز سفر لبنانياً في صف الجوازات اللبنانية من دون أين يواجه أي اعتراض، ثم يمر عبر نقطة مراقبة الحقائب الـ scanner، فيجد أن رجل المراقبة على الضفة الأخرى يتحادث مع زميل له عن أسعار الشقق السكنية والإيجارات، من دون أن يكون قد لاحظ مرور الحقيبة عبر الشاشة أمامه. يطمئن الى أن الوضع الأمني “ممسوك” فيخرج الى الشارع العام ليشهد بعينيه على حالة الفوضى الكاملة أمام المطار. يهب نحوه شباب كلهم إندفاع ومحبة يسألونه إذا كان يريد تاكسيا. وإذا اختار هذه الوسيلة، في غياب كلي لوسائل النقل العامة طبعاً، فقد يفاجأ بنوعية التاكسي المخصص لنقل المسافرين من المطار. طبعاً، هذا المشهد السوريالي يختلف جذرياً عما تصوره عدسة إحدى الدعايات الترويجية لأحد أشهر مصنّعي الحلو العربي، فتظن لوهلة أن المقطع مصوّر في مطار أمستردام مثلاً.

أما في موضوع تطبيق القوانين، فقد شاءت الظروف أن أحصل في إحدى ضواحي بيروت (الشمالية) على محضر مخالفة عندما ركنت سيارتي، في فترة بعد الظهر من يوم سبت ما، في شارع عريض اختار رئيس بلديته أن يمنع الوقوف فيه، على الرغم من وجود محال تجارية ومكان فسيح لوقوف السيارات. عدت لأجد “محضر ضبط” يجب دفعه، على خلاف الغرامات الأخرى، في مركز بعبدا، كما شاء الشرطي اللبيب الذي أكد مكان الدفع على المحضر. ذهبت بعد أسبوع واحد الى هذا المركز لأجد مركزاً يليق بالمواشي وليس بالمواطنين، والمراكز الحكومية في لبنان إجمالاً تعطي هذا الانطباع بأنها معدة لمجرمين وليس لمواطنين. فالعوارض الحديد التي من شأنها تنظيم الوقوف في الصف يمكن الاستعاضة عنها ببساطة بنظام الارقام (كما في أي مصرف محترم). لكن هنا ترى الناس وجوهاً متجهمة لأن كل شيء معدّ سلفاً لتحجيم الانسان (طبعاً فقط المواطن العادي وليس الذي لديه “واسطة”) ووضعه في موضع طالب الغفران والبراءة. يخيّم جوّ من القلق الوجودي على المواطنين الذين أخطأوا مثلي تجاه الدولة وقيمها العليا، فلا يعرف المواطن مسبقاً أي معلومات عن حجم المخالفة وقيمة الضبط، ولا عن المراحل المطلوبة للخروج من هذا المستنقع. هذه “العقلية” في إدارة شؤون المواطنين لا بد أنها لا تزال من رواسب الماضي، وتعود الى الحقبة العثمانية حين كانت الاستنسابية والاعتباطية من سمات السلطات المدنية. فلا يزال الموظف الحكومي هنا (وهو دائماً واجم الوجه كأن المخالفة هي إهانة شخصية له ولما يمثله من سلطة) يتصرف مع المواطن كأنه يتحكم بمصيره. هذا في موضوع تافه مثل غرامة السير فكيف بالامر إذا وصل الى خطيئة أكبر؟
تمر إذاً عبر هذه السلسلة فيصل دورك أخيراً، فقط لتستوعب أن هذه أولى المراحل. فالشبّاك الاول هو لتقييم حجم مخالفتك والمستندات المطلوبة. وإذا كنت محظوظاً يمكنك عندها التوّجه الى الطبقة الثانية لتدفع الغرامة. هناك تفاجأ بإحدى أظرف البدع التنظيمية: فالغرامة تقسم قسمين، قسماً عند الشبّاك الأول وقسماً ثانياً عند شبّاك في آخر الممر. لدى التدقيق يتبيّن أن القسم الاول من الغرامة يعود لدعم “صندوق تعاضد القضاة”. هكذا تطمئن الى أن قسماً من غرامتك له فائدة إجتماعية فهو مخصص لأغراض إنسانية وللتعاضد مع الجسم القضائي. في العودة الى الحركة الدائمة والملزمة بين طبقات مختلفة، دائماً صعوداً على الادراج، إذ إن المصاعد في معظم الاحيان معطلة أو مخصصة للرسميين فقط، يتبين لك أيضاً أن هناك دائماً نيّة تثقيفية ورياضية خلف الأنظمة التي وضعتها السلطة، بغية تدريب المواطن وتحسين ظروفه الصحية والنفسية.
هذه مجريات دفع غرامة ركن السيارة في مكان يمنع فيه الوقوف. لكن في جمهورية الموز هذه، الوقوف في عرض الطريق، أو double –park، على شريان أساسي في العاصمة يخلّف طوابير من السيارات المزدحمة لا يحاسب عليه، فأغلب الظن أن الذي تجرأ على الوقوف هكذا وتسبب بزحمة سير قد تصل الى المطار، هو شخص مدعوم! إنها جمهورية تمعن في إذلال المواطن العادي بينما المجرمون والسارقون والقتلة محميون لا يطالهم قانون.
لقد وضع المفكر الفرنسي الراحل ميشال فوكو دراسة تاريخية عن وسائل القمع والتسلط التي شكلت تاريخياً الوسائل الشرعية التي تستخدمها السلطة لضبط المواطنين مركّزاً دراسته على تطور السجن كمؤسسة منذ القرن الثامن عشر. تمحورت نظرية فوكو على أن “تهذيب” المواطن عبر الانضباط الصارم ضمن منظومة من المؤسسات، يمثّل السجن اقصى مظاهرها، ما هو إلا تدريب تعتمده السلطة لإنتاج “إنسان مطواع” يسهل إندماجه ضمن المنظومة السياسية والاقتصادية للعصر الحديث. ترى كيف كان فوكو ليقرأ هذه المنظومة في تجلياتها اللبنانية العديدة، وخصوصاً في مسألة دفع غرامة بسيطة؟ إنها بالطبع تندرج ضمن نظام يحاول إذلال المواطن، لكن ايضاً الفصل بين المواطنين قسمين أو طبقتين: طبقة اصحاب النفوذ التي لا تدخل السجن حتى لو اقترفت جرماً موصوفاً (أكثريتها تقود المركبات الرباعية الدفع، العسكرية الطابع) وفئة أخرى يتم تشديد العقوبات عليها من أجل تأكيد وجود ما بقي من سلطة، وتأمين الجباية التي ينبغي للسلطة تأمينها من واردات شرعية. يتحوّل إذاً المواطنون في لبنان قسمين: مجموعة فوق السلطة (أكثرها من رواسب الحرب كالميليشيات إضافة الى أصحاب النفوذ والمال) ومجموعة المفعول فيهم، أو “الماشية” بحسب نظرة السلطة إليهم. إنها جمهورية الذل بإمتياز!

(Al-Nahar)

logo

All Rights Reserved 2022 Loubnaniyoun

 | 
 |