main-banner

“يا ريت ينزل البابا من السما”

قائمة طويلة من الهدايا انشغلَ ريان ورواد، ولدا الشهيد المقدّم داني حرب، في كتابتها إلى بابا نويل. إلّا أنّ الهدية الأغلى على قلبيهما: «يا ريت ينزل البابا من السما، نشوفو شوَيّ ويرجع يطلع… اشتقنالو». بين حرارة الأعياد والفرحة «الناقصة»، يكتسِب الميلاد في منزلَي الشهيدين داني حرب وداني خيرالله معنى مغايراً… فبعدما خسرَتهما عائلتاهما في معركة عرسال، ها هما يولدان مجدّداً مع طفل المغارة.

ما إنْ يحلّ الليل ويستكين المنزل من حركة الولدَين ريان (9 سنوات) ورواد (5 سنوات)، حتى تنتظر إليانور لوهلةٍ عودةَ زوجها من الخدمة، «لا شعوريّاً قبل النوم أترصَّد متى يضع داني مفتاحَه في الباب، ولكن سرعان ما أتذكّر أنّه فارقنا إلى الأبد، فأمسحُ دمعتي…».

«البابا بيسمَعكن من فوق»

أبَت إليانور حرمانَ ولديها من بهجة العيد، بدا ذلك واضحاً منذ اللحظة الأولى لاستقبالنا في منزلهم. فلم تكد تنهي عبارتها: «أهلا وسهلا البيت بيتكن»، حتى أصرَّ ريّان على إعداد الضيافة بنفسه، فوقفَ على كرسيّ ليطالَ ما على سقفَ الخزانة، وانهمكَ رواد في تعداد هداياه حتى لحظة وصولنا، فكلّ ما في البيت ينبض حياةً وحركة. سعَت إليانور قدر المستطاع للتغلّبِ على جرحها، والتعويض عن غياب داني، فانهمكَت مع ريان ورواد في تزيين شجرة الميلاد وشراء الهدايا مثل الأعوام الماضية.

«لو كان داني موجود بيحبّنا نكون مبسوطين»، تقول إليانور لـ«الجمهورية»، موضحةً: «صوَر داني لا تفارقنا، يَعيش معنا وبينَنا، وغالباً ما أكرّر على مسامع الولدين، أنّ والدَهما يراهما ويسمعهما من السماء، على رغم أنّنا نعجز عن رؤيته».

وسط الصراع الذي تعيشه إليانور، بين استيعابها التدريجي للفاجعة وشوقها إلى نصفِها الآخر، لا تنكِر مرارة عدم اكتمال المشهد ليلة العيد. «يصعب عليَّ تصوّر العائلة مجتمعةً من دون طيف داني، لا شيء يمكن أن يملأ غيابَه، نظراً إلى أنّ داني أبٌ وزوج وحبيب إستثنائي، يُحبّ الحياة، نظاميّ، يواجه، لا يتنصّل من مسؤولياته، متفانٍ ومحِبٌّ لعمله وللمؤسسة التي انتمى إليها».

ومِن بين الأمور التي تبدّلت في العيد، وعلى رغم بساطتها، إلّا أنّ لها أثراً عميقاً في نفس الزوجة، كاختيارها لهدايا داني مثلاً، فتُخبر: «كنتُ أتنقّل بحماسة بين المحال أنتقي له ملابسَه، أحتار في اختيار الألوان، وما قد يحبّه، أمّا في هذا العيد فيصعب عليّ الوقوف أمام واجهات محالّ الألبسة، مَن أُهدي؟ لمَن أختار الملابس، داني رحَل».

حضورٌ أقوى من الغياب

«أنا إبن البطل داني حرب». هكذا يحلو لريان التعريف عن نفسِه، وعيناه تلمعان افتخاراً، إلّا أنّ في باله ألف سؤال وسؤال… فيقترب من والدته يسألها: «ماما يعني بابا وين نْجَرَح؟ وليش ما نقلو على المستشفى؟ طيّب ليش ما شافنا وودّعنا؟».

أمّا الأسئلة والسيناريوهات التي غابت عن بال ريان، فيستحضرها رواد: «ماما ليش ما في طريق قريبة للسَما من حَدّ البيت، كنّا شفنا البابا هُوّي وطالع». أمّا أمنيتُهما المشتركة فهي: «يا ريت داني ما راح على عرسال، يا ريتو نْجَرَح وما مات».

على رغم لسعةِ الفراق وقساوة الحقيقة، تحرَص إليانور على نقلِ حُبّ الحياة والولاء للمؤسسة العسكرية لابنيها، فتقول: «كان داني يتنكّر بزيّ بابا نويل في طفولة ولدينا، وفيما بعد بات يستقبل معهما بابا نويل، لطالما شكّلَ كتلةَ فرَح في البيت، وهذا ما أسعى لتوفيره في غيابه. بالإضافة إلى تنشئة الأولاد على حبّ مؤسّسة «الشرف والتضحية والوفاء»، لذا لا نغيب عن أيّ نشاط أو حدَث تنظّمه لأبناء الشهداء، فبقاءُ الوطن من قوّة تلك المؤسسة ووفائنا لها».

داني خيرالله

في المقابل لم تتمكّن كريستا هذا العام من كتابة رسالة إلى بابا نويل، فهي لم تكمل بعد نصف عامها الأوّل. «خسرَت كريستا والدَها وعمرُها 24 يوماً… هيدا أوّل ميلاد داني مِش معنا، بتعرفي شو يعني؟». تتحدّث جولي زوجة النقيب داني خير الله والغصّة تخنق صوتها، وسرعان ما استدركت قائلة: «ليش في عيد؟».

بفارغِ الصبر كانت جولي تنتظر عيد الميلاد، بعدما اتّفقَت وزوجها على الإعداد له بطريقة مغايرة، نظراً إلى أنّه سيكون العيد الأوّل في حضور ثمرة حبّهما الأولى، كريستا. «ولكن رحَل داني وبعدَه لم يبقَ لأيّ عيد معنى… ربّما عندما تكبر كريستا قد يختلف الأمر». بصعوبة تتحدّث جولي لـ«الجمهورية»، وهي تحبس الدمعَ في عينيها، قائلةً: «قبل استشهاده بأسبوع تخرّجَ داني من الجامعة، فهو رجلٌ طموح، شغوف، مثابر، ولطالما كنتُ أردّد على مسامعه: أتمنّى أن يحبّ أولادنا العِلم والدرس مثلك، لأنّك بارعٌ وطموح. لا يدخل داني في مسألةٍ إلّا وينجح فيها، ويخرج منتصراً، لا مكان للخسارة في قاموسه، فهو يُخطّط، يُفكّر ويُنفّذ».

«حرام كريستا ما تَعرفو»

لا حاجة لتسأل جولي عن عيد الميلاد بعد غياب زوجها، سرعان ما يأتي الجواب: «ما قبل داني ليس كما بعده… حلم وانسرَق». وما إنْ تتذكّر حماسة زوجها في التحضير لهذه المناسبة، حتى تتنهّد من أعماق نفسِها: «تأثّرَ داني كثيراً بوالده الذي خسرَه، فقد اكتسبَ منه طريقة تنفيذ المغارة على نحوٍ تحتلّ جزءاً كبيراً من البيت، وما إنْ كان يقترب العيد حتى ينهمك في التحضيرات، فهو زوجٌ حنون، محِبّ، كريم، مؤمِن، يحرص، بنفسه، على إفراح الجميع، كباراً وصغاراً، ولا شكّ في أنّني غالباً ما كنتُ إلى جانبه أساعده».

أكثر ما يحزّ في نفس جولي أنّه لم يتسنَّ لوحيدتها فرصة التعرّف إلى والدها: «داني حَدا كتير طيّب، حرام كريستا ما تتعرّف عليه…». وتضيف: «مجرّد صورة إلى جانبه بالقرب من شجرة العيد لم يتسنَّ لها التقاطها… من أعماق نفسي تمنّيتُ لو تعرّفَت إليه لتكتسبَ من خصاله ومن مفهومه للحياة، سيصعب عليَّ اختصار داني لها في كلمات، يكفي أنّه ذهب شهيد الوطن».

ختاماً، لا شكّ في أنّ «الجمرة ما بتحرق إلّا مطرحها» ، وأنّ الوقت قد لا يضمّد الجراح، بل يزيد المرءَ حنيناً لأشخاص افتقدَهم… ولكن يبقى الأملُ كبيراً في أن تحمل ولادة الطفل في المغارة، ولادةً لكلّ مَن سبقونا في قلوبنا… ولولا سقوط الشهداء لما وُلدَت أوطان، وعسى أن تكون قافلة شهداء العام 2014، القافلةََ الأخيرةَ لولادة لبنان السيّد الحر المستقلّ.

المصدر: الجمهورية (نتالي اقليموس)

logo

All Rights Reserved 2022 Loubnaniyoun

 | 
 |