main-banner

بين جدي ووطني

وتشرق الشمس بعد ليل طويل, لتخترق أشعتها الخجولة نافذة غرفتي… أنهض مسرعا خوفا من ان يفوتني القطار المتوجه الى جامعتي, أحضر قهوتي اللبنانية, وأجلس لأرتشف فنجاني و عيناي تُراقبان المارة… كلهم في عجلة من أمرهم, يصارعون الوقت و يركضون… و ها هو موزع الجرائد في مكانه المعتاد, انه الشخص نفسه لا يتبدّل و لكن أخبار أوراقه تتغير وفق الأيام و الأحوال… أمعن التحديق في وجهه المتعب و المجعّد, فبمن يذكرني هذا الرجل؟ أنه جدي…

تذكرت ضحكة جدي, فرغم كل الظروف و الصعوبات, لم تفارق وجهه يوما… حتى في رحيله الأخير, نظر الي, ضحك, و أضاف : “سأعود يا بني, انتظرني”. و لكنه لم يعد, دخل المستشفى يومها, وتوفي بعد عملية جراحية طويلة…
انه جدي, الفلاح البسيط, الممتلئ نشاطا و حكمة… رافقته مرارا الى بستانه الجبلي, و بالرغم من بدائية زراعته و المحصول المحدود, كان سعيدا, محبا للضيف وعاشقا للطبيعة و الحيوانات….
و مع مرور كل تلك السنين, تخوننا الذكريات و التفاصيل, ولكن سرعان ما تعود… فجدي الذي كان موسوعة من القصص و الروايات, كنا نجد فيه بوابة الى الماضي, ويكفي أنه عايش سنوات المجد اللبنانية…
طفولة جدي, رافقت قيام دولة لبنان الكبير, و لطالما جلسنا حوله نستمتع بحكايات ذلك الزمن الجميل, زمن ” ترامواي” بيروت…
كان يخبرنا عن زياراتهم المتكررة الى العاصمة , عن تلك المدينة الساحرة, عن محبة اهلها, و لا يخلو الحديث من الوصف المفصل للترامواي, سككه الحديدية و اتجاهاته الثلات…

روايات جدي و قصصه, كانت تتوقف عند أوائل السبعينات, فالزمن بنظره توقف هناك… و كان يقول : “لبنان بعد الحرب الأهلية, تغير كثيرا, يا جدي, لقد دمرنا كل ما بناه أجدادنا, قضينا على ما سمي بدولة لبنان الكبير بلمح البصر, و قسمناه الى أجزاء متنافرة, حتى التقسيم دخل البيت الواحد, و قتل الأخ أخاه”…. أخبرنا جدي أيضا, و بألم عن فترات التهجير, أبان الحرب الأهلية, و كيف أُجبروا على ترك منازلهم و الهرب الى المجهول…

توفي جدي, منذ أكثر من عشر سنوات, فهل تغير لبنان في غيابه الى الأفضل أم الأسوأ ؟ و لو بقي على قيد الحياة حتى اللحظة, هل كان سيفضل العودة الى ايام الحرب, أم كان سيرى في لبنان اليوم ما اعتاد أن يراه في زمن المجد؟
أرقد يا جدي بسلام, وأعلم أن حفيدك يذكرك دائما بالخير, و ان الزرع الذي غرسته يوما في بستانك الجبلي, أزهر ثمارا ونجاحا….

وتعود الشمس لتشرق من جديد, أنهض, أحضر قهوتي و أركض الى الشباك…نظرت الى الشارع, فرأيته مزدحما أكثر من العادة, واذا بالمارة يتجمعون حول بائع الجرائد بعد أن فقد وعيه…. نُقل الى المستشفى, ولم أره بعدها مجددا……


بقلم نهرا عبده الحاج

logo

All Rights Reserved 2022 Loubnaniyoun

 | 
 |