“أحوال” يلتقي لبنانيين أرمن أعادتهم الازمة الاقتصادية إلى أرض الأجداد
موجات قدوم الأرمن إلى لبنان ضاربة في عمق التاريخ وهي تمّت إما تحت مقصلة الإبعاد والنفي والإبادة وإما بحثاً عن حرية الإيمان والمعتقد والأمن والأمان.
فعندما غزا المماليك كيليكيا عام ١٢٥٠ ودمروا مملكتها الأرمنية، وأمروا بترحيل عشرات آلاف من الأرمن كسجناء إلى مصر، تمكّن عدد كبير منهم من الفرار خلال المرور في لبنان ولجأ معظمهم إلى الجبال بين زغرتا وإهدن. كما شهد القرن الثامن عشر موجة جديدة حيث تجمعوا حول كنيستهم في دير سيدة بزمار، الا ان الهجرة الأكبر كانت بين عامي 1915 و1917 في ظل المجازر التي ارتكبت فشكلت إبادة جماعية حيث حملوا تاريخهم وأوجاعهم ودمهم ودموعهم وساروا في العراء إلى المجهول الذي قاد بعضهم إلى لبنان.
اليوم، ومن سخرية القدر، في ظل ما يمكن وصفه بـ”الإبادة” الإقتصادية التي يعيشها لبنان مع الانهيار المالي والنقدي والتداعيات الكارثية على كافة القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والتربوية والصحية وعلى الأمن الإجتماعي، بدأ عدد من اللبنانيين من أصول أرمنية السير بالإتجاه المعاكس والعودة إلى أرض الاجداد.
“أحوال” واكب الملف عبر شهادات حية من مطار بيروت وصولاً إلى يريفان.
حملت ماضيها ومشت بحثاً عن مستقبل أفضل لأطفالها
لا أصول أرمينية لكريستين إبنة الخمسة وثلاثين عاماً التي إقترنت بحب حياتها منذ ١٢ عاماً، وهو شاب من أصول أرمينية وأنجبا ثلاثة أطفال. إلتقينا بها حاملة أولادها (١١ عاماً، ٨ أعوام و ٤ أعوام) وبرفقة زوجها في مطار يريفان قادمة من بيروت.
تركت كريستين أهلها وحملت قلقها عليهم وذكرياتها وماضيها بحثاً عن مستقبل أفضل لأطفالها إذ أنّ “الحياة أصبحت صعبة جداً، الغلاء جنوني في لبنان ولم نعد نقوى على تأمين الحد الأدنى من الحياة اللائقة. الراتب لا يكفي للأكل والشرب والمدارس”.
لا تتقن كريستين اللغة الأرمنية، ورغم هذه الصعوبة أخذت التحدي وقررت الإنتقال للعيش في يريفان والإنطلاق من الصفر لبناء حياتها، على أن ينضم إليها زوجها نهائياً بعد تمكّنه من تصفية أعماله في بيروت.
لقد سجّلت أولادها في المدارس حيث أسعفهم أنهم كانوا تلامذة مدرسة أرمنية في لبنان، وهي تقول: “كان أطفالي بالكشافة ويشاركون في نشاطات أخرى. اليوم تركوا رفاقهم وإنسلخوا عن هذه الأمور. منذ إنفجار ٤ آب وهم أصيبوا بحالة هلع واصبحوا يخافون من الأصوات. في أرمينيا قد تتوفر لهم مقومات العيش الكريم والاستقرار”.
وتختم: “لا أخاف من حرب قد تندلع في أرمينيا فهم يقاتلون دفاعاً عن أرضهم وإيمانهم وهويتهم. لكن “ضيعانو” لبنان أجمل بلد. ما فشلت الحرب أن تحققه به، حققوه في السلم”.
أحلم يوميأ بلبنان ولكن من دون سياسييه
أغوب بسماجيان إبن التسعة والعشرين عاماً والمجاز بإدارة الأعمال من جامعة LIU في بيروت يؤكد لـ”أحوال” أن “حلم كل شاب من أصول أرمينية أن يعود إلى أرمينيا ولكن الأمر سابقاً كان يبقى حلماً، إلا أن تدهور الوضع الاقتصادي في بيروت دفعني مطلع عام ٢٠١٩ إلى الإنتقال إلى يريفان حيث هناك فرص لتأسيس عمل خاص وصناعة مستقبلي”.
يضيف: “لبنان لا يفارقني وأنا أحلم به يومياً وبحياته الجميلة ولكن من دون سياسييه. في أيلول الماضي توجهت إلى بيروت حيث تزوجت خطيبتي وهي من أصول أرمينية وعدنا معاً إلى يريفان لتأسيس عائلة تنمو على حب الوطن وتنعم بوجود دولة توفر بيئة سليمة ومقومات عدة لأطفالنا”.
خسرنا جنى العمر ٧ مرات في بيروت
عندما وقع انفجار ٤ آب في مرفأ بيروت كان هاروت (إسم مستعار لشاب خمسيني) نائماً على الكنبة، فإستفاق ممدداً على الأرض وواجهة الشرفة الزجاجية تغطيه. في تلك اللحظة، حسم أمره وأبلغ زوجته بقراره ترك لبنان نهائياً والإنتقال إلى أرمينيا. محاله في الدورة أصبحت في خبر كان، ويروي لـ”أحوال”: “انها سابع مرة نخسر جنى العمر أكان خلال الحرب وخصوصاً حربي التحرير والإلغاء في نهاية الثمانينات أو في الانفجارات وختامها اليوم”.
يتابع: “لقد راسلت أكثر من شركة هنا من أجل العمل وجاء ردّ مبدأي حيث قدمت منذ شهر وأنتظر إجراء المقابلات فور تحسن الكورونا. وما ان استقر سأحضر زوجتي”.
ويختم: “طفولتي وشبابي وحياتي في بيروت ولكن من دون جدوى. لقد إنتقلت إلى يريفان ولا أنوي العودة”.
العودة إلى الجذور خيار مقدّس ومفرح لكل من يتمسك بهويته التاريخية، لكن متى تصبح هذه العودة مفروضة للهرب من واقع إقتصادي صعب تتحول أمراً محزناً.
لبنان مقبل على “تصحر” سكاني ولو فتحت السفارات أبوابها لكان هول الهجرة أشدّ إيلاماّ من هول إنهيار الدولة وإقتصادها.